أحدث الأخبار الثقافية
الجمعة، 14 أكتوبر 2011
جريدة الرأى الأردنية : متى يصبح الأديب عالمياً؟!
Do you like this story?
متى يصبح الأديب عالمياً؟!
جريدة الرأى الأردنية :
د.سليمان الأزرعي - الأديب والمناضل والمفكر اليوناني الكبير "نيكوس كازانتزاكيس" واحد من قمم الأدب العالمي الشامخ. ولد في جزيرة كريت العام 1885، ودرس في مطلع شبابه القانون في جامعة أثينا، ثم انعطف إلى دراسة الفلسفة في باريس. وبعد أن أنهى دراسته عاد إلى بلده ودخل في حالة من الاعتزال، إذ عاش لمدة عامين في دير منعزل للرهبان في جبل "آتوس" الذي كثيراً ما تردد ذكره كمكان في رواياته وأشعاره وكتاباته المسرحية.
في معتزله فكّر بعمق في وطنه اليونان، وفي البشرية وفي الحروب والسلام والحضارات والتعايش، ثم خرج من انطوائه وعزلته ليكتب روائعه التي بهر بها العالم، ودفع بها إلى لبّ الآداب الغربية التي كانت قد نسيتْ مع تنامي تراثها القومي في كل قطر أوروبي، أن اليونان حضارة وفكراً وإبداعاً إنسانياً إنما هي الأصل.
كازانتزاكيس أعاد اليونان إلى خريطة الإبداع الأوروبي، ووضعها على قمة الإبداع الإنساني. وهدفَ عبر شعره ونثره إلى بعث الأمة الهيلينية الذاهبة مباشرة نحو المستقبل، انطلاقاً من الراهن اليوناني وماضي اليونان، بهدف تجاوز كبوة الحضارة الهيلينية التي تعرضت لاجتياح الأتراك خلال القرون الأخيرة.
ميزة اليونانيين القوميين الذين استقبلوا روح العصر الحديث بصرف النظر عن الحقل الذي عملوا فيه، سواء في الفلسفة أو الأدب أو التاريخ، أنهم لم يدخلوا مقبرة الماضي التليد، ولم يجلسوا على أضرحته ليأخذوا باللّطم والنحيب. ميزتهم أنهم اتخذوا من الماضي أرضاً صلبة وقفوا عليها.. تسلقوا قممها وأشرفوا منها على العالم ماضياً وحاضراً، ومن هناك تطلعوا إلى المستقبل.
هكذا جاء كازانتزاكيس.. وهكذا عبّرت حياته بمحطاتها الشجاعة والمباغتة عن ذلك المزيج الرهيب في الشخصية اليونانية التقدمية، وعن ميزة الفروسية الإنسانية في إبداعه..
درس كازانتزاكيس القانون في جامعة أثينا، وتعمق في موضوعة حقوق الإنسان والدولة مطلع القرن العشرين، ثم انعطف إلى دراسة الفلسفة في باريس. وهناك تسلق الذرى وعانق قمم الفكر والفلسفة اليونانية والعالمية..
استعاد كازانتزاكيس افلاطون وأرسطو وفلسفتهما. واستعاد من شعراء اليونان أيسخلوس الحكيم الأخلاقي، وكذلك يوربيديس الثوري الذي "أفسد" أخلاق الشباب في أثينا الإغريقية، وراح يعمل بدأب لا نظير له.. وكأيّ رائد يعيد الحياة لأمته المطعونة براهنها وبمجدها الغابر، راح كازانتزاكيس يحرر اللغة، كما راح الشاعر التركي التقدمي العظيم ناظم حكمت يعمل في الحقل إياه وفي الصنعة إياها ليعيد للأمة التركية الحياة بعد موات طويل فرضه النظام الإقطاعي البغيض للدولة التركية ومزاجها الإقطاعي العبودي الذي أغرق اللغة التركية بالمحسنات الفارغة كما العربية في عصر الانحطاط.
كلا الرجلين عَبَرَ بوابة الأممية والعلمانية الشجاعة، مستنداً إلى معطيات الماضي الذي لم يمت، والذي ما يزال يدخل في حساب الراهن.
إن التعامل مع الماضي "غير القابل للموت" بحسبانه جزءاً من المنظومة الأخلاقية الحضارية للراهن وبعضاً من مفردات الانطلاق للمستقبل، هو الجوهر التقدمي في موقف المبدعين القوميين.. وهو الذي يميزهم عن غيرهم من السلفيين القوميين الذي لم يعد لديهم من الرؤى ما يعصمهم عن السقوط في حبائل الشوفينية والعنصرية البغيضة التي تحتفي بماضيها وتصرّ على إحياء الميّت منه، وليس الاحتفاء والتعامل مع ما ظلّ منه مصرّاً على الحياة فتحول إلى قيمة عليا رغم انتفاء الأساس المادي لبقائه حيّاً، وفقدانه لمرتكزات ومبررات قبوله في حقبة اجتماعية وثقافية بعيدة كل البعد عن حاضنة ظهوره –نقصد بذلك الحاضر المعاصر.
هذه المسألة التي نتوقف عليها تحديداً، مصيبة المصائب. وفي مثل تلك الرؤية القاصرة تكمن لعنة الأمم المجيدة التي يبتليها مبدعوها وقادتها المعاصرون بالسلفية. إذ يصرون على إبقائها خارج العصر، وحصرها في الماضي الممتع ومروياته المدهشة والتافهة في آن معاً.. وربما كانت الأمة العربية إضافة إلى اليونانية والتركية، وكذلك الأمة الفارسية، أمثلة حيّة على حالة الحشر في عنق الزجاجة التي يتسبب بها أدباء ومفكرون وسياسيون و"قومجيون" وسلفيون ورجال فكر وثقافة وتربية لمستقبل أممهم. وتظل ثقافة الأمة في عنق الزجاجة ما دام بقي كذلك "العلاّمة" الكبير و"القومجي" العظيم و"المفكراتي" النابه من العنصريين الشوفينيين يزجّون بفكر أمتهم وثقافتها في خانة الاستعلائية الشوفينية القائمة على استعادة ما مات من ظواهر الماضي بإصرار غبي، ولا يعينهم فكرهم وثقافتهم على رؤية ما زال حيّاً من مفردات الثقافة، وما يزال مصرّاً على الحياة بحكم كونه ينطوي على قيمة إنسانية عليا تصر على الحياة والبقاء في الحياة رغم انتفاء مسوغات بقائها وانعدام الأساس المادي لضمان حياتها في الراهن.. إنهم فقط، يدهشونك في ما خاضت أمتهم من حروب ظالمة بسطت في أعقابها نفوذها على أراضي الآخرين واستعبدتهم.. وبنت الإمبراطوريات الجبارة..
كازانتزاكيس إذن كقومي شجاع ووفيّ لتراث أمته، ماضياً وراهناً ومستقبلاً، عبّر عن وفائه الخالص لهذه الثقافة العظيمة والحرص القومي المؤكد على إعادة بعثها، لا عن طريق الأدوات السلفية الساذجة، ولكن عن طريق البحث المضني والمتمعن في كل ما يثبّت وقفة هذه الأمة وثقافتها وحضارتها في وجه التحديات التي تعصف بها، في وقت يقاتل فيه الأغبياء من الكتاب الشوفينيين طواحين الهواء ويُمعنون في إيذاء ثقافة أمتهم وهم يسبغون عليها صفات المجد الزّائف والماضي "التليد"، فيما يعتقدون أنهم إنما يخدمونها.
إن المبدعين الذين يواصلون زحفهم نحو القمة، لا يهمهم مَن سيسبقهم أو من سيتأخر عنهم. حتى إذا وصلوا القمة رأوا بعضهم بعضاً. تماماً. هناك في قمة الإبداع الإنساني والأممي الخالص من أي نواقص مشينة يلتقي مبدعو الأمم.. نراهم رغم أننا لم نعايشهم جميعاً.. لكن الباحثين والنقّاد والمثقفين يرونهم هناك عند القمة، يلتقون كما النسور. يرون بوشكين وبايرون وبودلير ولوركا وأراغون وعرار والمتنبي وأبا العلاء وسيرفانتيس على تباعد أماكنهم وأوطانهم وأزمانهم لأنهم يحملون الجينات نفسها والرؤى نفسها والأحلام البشرية الخلاقة نفسها.. أحلام السلام والتعايش وتواصل الشّعوب والأمم..
نرى هذه النماذج من أعلام الفكر والثقافة في حضارات الأمم رغم تباعد الأزمنة والأمكنة بيننا وبينهم.. لكنهم إذا ما التقوا في حياتهم رأينا كيف تنهار كل الحواجز القومية وأسوار العداء التي رفعتها الأفكار العنصرية والشوفينينه بين الأمتين! وانهارت على أيدي مبدعيها الأمميين البررة.. وبهذه الروحية الأممية التقدمية يستقبل كازانتزاكيس اليونانيُّ، شاعرَ تركيا الإنساني الأممي ناظم حكمت رغم ما بين الأمتين مما صنع الحدّاد. كما يقدّم أديبُ ألمانيا الكبير "غونتر غراس" حامل "نوبل"، الأديبَ والشاعر التركي الكبير "يشار كمال"، ويقدّم اعتذاره الإنساني باسم أمته الألمانية إلى الأمة التركية، وعبْرَ الشاعر التركي الإنساني الكبير، يقدّم اعتذار ألمانيا لما يعانيه المهاجرون من العمالة الأتراك في ألمانيا من عنتٍ لا إنسانيّ.
مفتاح الشّهرة الحقيقية، وليست المزورة والمصنوعة لمبدعي الأمم، هي بالتحديد إنسانية المبدع وإنسانية إبداعه ونقاء هذا الإبداع الخالص من أي عنصرية أو استعلائية قومية استكبارية..
في هذا الموقع من الخلاص الإبداعي وقف المبدع الكولومبي "غابرييل غارسيا ماركيز". كما وقف البيروفي "ماريو برغاس يوسا" وكذلك الألماني "غونتر غراس" والبرازيلي "باولو كويلّو" والياباني "ياسوناري كاوباتا"..
ولقد تربّع هؤلاء على قمم الإبداع العالمي، بالتحديد للسبب المذكور آنفاً، وهو الرؤية الأممية الإنسانية العميقة التي تميزوا بها، ومناصرة القضايا العادلة للشعوب والأمم والطبقات المضطهَدة، وتقدير القيم العليا في معطيات حضارات الأمم والاحتفاء بالإنساني منها، وليس بالاستناد للنظرة العمياء المنحازة سلباً أو إيجاباً لكلّ ما تحدّر من مخرجات الأمة من غثّ وسمين..
في كل عمل أدبي عظيم قضية عظيمة. ونحن إذ نتوقف عند رواية اليوناني نيكوس كازانتزاكيس "المسيح يصلب من جديد"، فإننا نتوقف عند عملية الصّلب التاريخية القذرة، التي أودت وبكل بشاعة بحياة مسيح عصره، وعلى أيدي القتَلة والأشرار..
إن عملية الصّلب البشعة والحقيرة ما تزال مستمرة إلى اليوم! لا بل إن هذا العصر يشهد عمليات صلب فردية وكذلك جماعية، يُصلب فيها شعب بالكامل، وتُصلب قضيته العادلة، وتُصلب حريته ومستقبله على أيدي طغاة حكام، ومتنفذين اجتماعيين تسلطوا على رقاب العباد جماعاتٍ ووحدانا.
في رواية "زوربا اليوناني" يعبرِّ بطل كازانتزاكيس عن ذلك التوق العميق والمؤكد لإنسان العصر وتطلعه إلى المعرفة المطلقة وانعتاقه من ربقة الفكر البالي والمتخلف، الذي ما يزال يتحكم برقاب أناس العصر ويعيدهم إلى الوراء قروناً وعصوراً.. إنه ينحاز بقوة إلى التقدّم. ولا تخلو روايته من الاحتفاء الصادق بالقيم والدفاع عن نقاط الضّعف ومواطن الاضطهاد الاجتماعي.. وهنا في "المسيح يصلب من جديد" التي تقع في نحو ألف صفحة، ينحاز كازانتزاكيس إلى الدّفاع عن القيمة الإنسانية الصادقة، ويميط اللثام عن حجم ما يتمتع به الشريرون من قدرة على النذالة.. كما يعرّي أدوار بعض الوظائف الاجتماعية التي يتسلح بها الآخرون من ذوي النفوذ بمن فيهم رجال الدّين ووجهاء البيئة المحلية، ومن خلال أدوارهم القذرة في محاربة الخير دفاعاً عن مغانمهم الحقيرة التي يرونها تلوح من بعيد في دمار الآخرين. كما يستبشر وجهاء بلدة "ليكوفريسي" اليونانية التي راحت تستقبل الأرمن المهجَّرين من قرى المذابح التي جرت على أيدي الأتراك القوميين.
وهكذا، يجد شيوخ البلدة ووجهاؤها وكبار كهنتها وتجارها ومرابوها وسفلتها، في هؤلاء المهجرين البؤساء، صيداً ثميناً، فتصبح كسرة الخبز ثمناً لكرامة هؤلاء الجياع الهاربين من الموت الجماعي.. وهكذا يُصلب مع كل مطلع فجر مسيح أو أكثر في سياق عملية كبرى للصلب الجماعي، لشعب بائس ما يزال الوجدان الإنساني النبيل يستذكر بشاعة تلك المذابح التي حلّت بالأرمن..